الدكتور عمر المفلح*
أفرغت سلطات البحرين ما لديها، وحكمت على الشيخ عيسى قاسم بالسجن مع وقف التنفيذ، مع مصادرة أموال الخمس الشرعيّة التي يتمّ جمعها بناء على عقيدة المذهب الجعفريّ، إضافة إلى فرض غرامة ماليّة محددة.
في الظاهر، فإنّ هذا الحكم يبدو مخففًا وغير قاس، وقد يعطي إشارة إلى أنّ النظام البحرينيّ يرسل إشارات إيجابيّة باتجاه المعارضة البحرينيّة، وأنّه يتقدم خطوة في سبيل إنهاء الأزمة أو على الأقل التخفيف من حدتها، بعد وصول الأمور إلى درجة عالية من التوتر والاحتقان، وانحدار الأوضاع في المملكة إلى مرحلة أصبح من الصعب بمكان السيطرة عليها، خصوصًا بعد تمادي السلطات البحرينيّة في اضطهاد الشعب والتعاطي معه بفوقيّة مبالغ فيها.
وبالفعل فإنّ بعض المراقبين عن بعد نظروا إلى الحكم على أنّه بادرة حسن نيّة من النظام، ورأوا أنّ الحكم لسنة واحدة وتوقيف التنفيذ لثلاث سنوات، هو تأجيل للأزمة وترحيلها إلى وقت لاحق، مع فتح المجال خلال هذه المدة للعودة إلى الحوار لتنفيس الأجواء.
بل ذهب بعضهم في تفاؤلهم بهذه الخطوة أكثر، حين رأوا أنّ على المعارضة أن تلاقي النظام في هذه الخطوة، وأن تتقدم خطوة باتجاهه في سبيل الالتقاء وفتح باب الحوار من جديد.
أمام هذه النظرة التي تبدو إيجابية، وأمام الحكم الذي يظهر على أنّه إيجابيّ ومتساهل، تبرز أمامنا حقائق واضحة وجليّة، ولا يمكن التغاضي عنها أبدًا، وعلى ما يبدو فإنّ المعارضة واعية جدًا لخفايا الحكم، والخطورة التي تكمن فيه، خصوصًا أنّ ردة فعلها كانت عالية ومدينة ومستنكرة بأشدّ العبارات لمثل هذا الاستهداف.
المعارضة البحرينيّة، ومن خلفها الشعب البحرينيّ بأغلبيته المطلقة، تعاملوا منذ البداية مع محاكمة آية الله قاسم على أنّها باطلة، وأكّدوا أن ما بني على باطل فهو باطل، وبالتالي فإنّ كلّ ما يصدر عن محاكم السلطة من أحكام في هذه القضية، سواء أكانت مخففة أم مغلظة، لا تعنيهم لا من قريب ولا من بعيد، وعلى هذا الأساس بنوا مواقفهم وأصروا على رفض المحاكمة ومعارضتها معارضة شديدة.
فمحاكمة الشيخ عيسى قاسم من الأساس مبنيّة على تهم غريبة جدًا، حيث يحاول النظام أن يدين المذهب الجعفريّ، وأن يعمل على محاكمته من خلال إدانة فريضة أساسيّة وفرع أساسيّ من فروعه، وهي الخمس التي تُجمع الأموال تحت عنوانها في البحرين منذ عشرات السنين وليس منذ سنة فقط، فلماذا التفت النظام البحريني الآن فقط إلى هذه القضيّة التي يصفها بالمخالفة القانونيّة؟
الخطورة لا تكمن في التهم التي وجهها النظام البحرينيّ إلى الشيخ عيسى قاسم فحسب، والتي هي تهم باطلة بالأساس، إنما في الأسباب التي جعلت هذا النظام يلجأ إلى كيل مثل هذه الاتهامات وفتح محاكمة كبيرة ومشبوهة لأبرز شخصيّة شيعيّة في البحرين، وربما في الخليج.
الواضح أنّ النظام البحريني، وبعد أن وجد أن الشعب البحريني قد صمد وثبت طوال ست سنوات في حراكه الثوريّ، على الرغم من كلّ ما واجهه من ظلم واضطهاد وقتل وتعذيب وتنكيل، وبعد أن استعمل سلاح الاعتقال بحقّ غالبيّة قيادات المعارضة وعلى رأسهم أمين عام جمعيّة الوفاق الشيخ علي سلمان، وعلى الرغم من ذلك ظلّ الشعب ثائرًا ورافضًا لكلّ أنواع الاضطهاد، بل أكّد تمسّكًا أكبر بمطالبه المحقة وحقوقه المشروعة بالديمقراطيّة ورفع الظلم.
لم يجد النظام وسيلة غير استهداف الرمز الأول للشعب البحرينيّ، الذي يعدّه هذا الشعب خطًّا أحمر لا يجوز المساس به.
أمام هذا الواقع، يتضح لنا أمر خطر يحاول النظام أن يسير به، حيث يعمل على ممارسة أسوأ أنواع الابتزاز من خلال الحكم الصادر، ففي الوقت الذي يعمل على تأجيل السجن وعدم تنفيذه فورًا، فإنّه وضع لغمًا بفرضه غرامة ماليّة على الشيخ قاسم، مع ما يعنيه ذلك من إلزاميّة دفع هذه الغرامة، مع ما يلازم ذلك من اعتراف صريح بالمحاكمة وبالتهم الموجهة، وتسليم بصلاحية الأحكام التي صدرت والتعامل معها على أنّها شرعية، وهذا كمين أوّل تخطته المعارضة وكشفت خبثه، في حين أنّ الكمين الآخر يتمثل في أن عدم دفع هذه الغرامة خلال فترة محددة، يسمح للسلطات البحرينية باتخاذ إجراء محدّد بحقّ الشيخ قاسم، والذي يكون على الأرجح إبعاده عن البلاد خصوصًا أنّه مسقطة جنسيّته.
يراهن النظام البحريني من وراء هذا الحكم على سحب الاحتقان من الشارع البحريني، وخلق حالة من البلبلة والتنازع فيما بين المعارضة نفسها، وأيضًا بين أبناء الشعب الثائرين فيما بينهم، ومحاولة إيهام بعضهم أنّ هذه الرسالة التي وجهها هي في صالحهم ومن أجل التخفيف من معاناتهم ومحاولة تصحيح الوضع القائم وتحسينه، وهذا فخّ نصبه النظام للشعب من أجل العمل على تنفيسه والتخفيف من حماسه مع ما ينجم عن ذلك من استرخاء، يريده النظام من أجل توجيه الضربة القاضية.
المطلوب أن يدرك الشعب البحرينيّ المخطط الشيطاني من وراء هذه المحاكمة والحكم الصادر اللذين يرمي النظام من خلالهما إلى الالتفاف على مطالبه وثورته، وإلحاق الهزيمة المرّة بهم بالخديعة، بعد أن فشل في ذلك بآلة القمع التي استخدمها طوال أكثر من ست سنوات من عمر الحراك الثوريّ، وأن يعي هذا الشعب جيدًا أنّ النظام الحاكم في البحرين، وفي ظلّ هذه الهجمة الشرسة من قبل دول الخليج على الشعوب الممانعة في المنطقة، والتي اتضحت بشكل مفضوح خلال زيارة الرئيس الأمريكيّ للسعودية والخطاب العالي اللهجة اتجاه إيران، لا يمكن أن يقدم أي بادرة طيبة أو أن تكون لديه أي نية حسنة تجاهه، وبالتالي لا يمكن الوثوق به وبأحكامه على الإطلاق
*كاتب سياسيّ وأستاذ العلوم السياسيّة – واشنطن